د. أسامة السعيد يكتب: «جولة داخل ”عقل” الدولة»
دنيا المال( المقال) .. ( نقلا عن جريدة الأخبار )
في القرن الخامس قبل الميلاد، ظهر مفهوم "استراتيجيا"، وهو مستوحى من كلمة يونانية تعني "نشر القوات في ميدان القتال"، فقد كان القتال والحروب بشكلها التقليدي القديم الذي يقوم على القوة البدنية والتنظيم الميداني للمقاتلين، هو كل ما يشغل القادة ومخططي المعارك في تلك العصور القديمة.
اليوم تغير كل شيء في مفهوم الحروب والقتال، لكن بقيت معاني الاستراتيجية باعتبارها تحسبا وإعدادا للمستقبل عابرة للعصور، ومتجاوزة مئات التعريفات وآلاف الدراسات بدول العالم ولغاته المختلفة، الجميع يكتب ويحلل، لكن الجميع أيضا يتفق على معنى واحد لتلك "الاستراتيجيا"وهو الاستعداد واليقظة الدائمة للتعامل مع مختلف المتغيرات، والإدارة عالية الكفاءة للموارد لاقتناص الفرص، ومواجهة المخاطر.
تغير العالم، وتبدلت أدوات حروبه وصراعاته، لم تعد الشجاعة والقوة البدنية هي العنصر الأبرز لحسم القتال، بل صارت الحروب في العصر الحديث تدار عن بعد، وبأدوات خفية، وعناصرها ومشعلوها لا يتحلون دائما بذلك القدر من الشجاعة التي كان يتحلى بها المقاتلون القدامى.
الآن تدور الحروب في ميادين الاقتصاد والتكنولوجيا وفي الفضاء الإلكتروني، بل وحتى في الفضاء الخارجي، ليزيد كل ذلك من تعقيد الفكر الاستراتيجي، الذي باتت حدوده تتجاوز "نشر القوات في ميدان القتال"، لتشمل إدارة كل شئون الحياة وفق رؤية شاملة لا تستثني بعدا، ولا تتجاهل احتمالا، لجعل المستقبل أكثر أمنا واستقرارا.
***
تبادرت إلى ذهني الكثير من تلك الأفكار، بينما كنت أتوجه برفقة مجموعة من الزملاء الصحفيين والإعلاميين إلى مقر القيادة الاستراتيجية بالعاصمة الإدارية الجديدة، أدركت أن الانتقال إلى ذلك المكان ليس فقط انتقالا مكانيا يطوي المسافة من القاهرة إلى حيث مقر القيادة، لكنه كذلك رحلة عبر الزمن، سفر إلى قطعة من المستقبل الذي نبتغيه لوطننا العريق، حيث يُبنى كل شيء وفق تخطيط دقيق، وبإمكانيات تلبي أعلى متطلبات العصر التكنولوجي، ويقوم عليه أفراد مؤهلون يمتلكون الكفاءة والجدارة اللازمة للتعامل مع مختلف المتطلبات.
مقر القيادة الاستراتيجية ليس مقرا عسكريا، بل هو بالفعل وبلا أية مبالغة "عقل" الدولة المصرية بكل مؤسساتها وأدواتها، في هذا المكان تجتمع جميع الموارد المعلوماتية الضرورية لإدارة الدولة بانسجام وتناسق تحتاجه صناعة القرار، وبما يضمن أعلى درجة كفاءة الإدارة وفاعلية الأداء.
لعقود طويلة ظللنا نشكو من فكرة "الجزر المنعزلة" في إدارة شئون الدولة، بكل ما يتسبب فيه ذلك من بيروقراطية وإضاعة للوقت والفرص، الآن نستطيع القول أننا أمام فكر مختلف للتعامل مع التحديات وإدارة الدولة بعقل نابه يعتمد على توظيف التكنولوجيا الرقمية، ويضمن سرعة اتخاذ القرار في التوقيت المناسب، وهو أهم مبادئ الإدارة الناجحة.
تجولنا في مقر القيادة، رأينا بأعيننا ملمحا لوجه مصر المستقبل، ليس المبنى هو الأهم في تقديري، بل الأهم هو المعنى الذي يمثله ذلك المبنى وتلك الأدوات، الأهم هو الفكر الذي يتجلى واضحا في جنبات ذلك المبنى الرمز، مستندا إلى رؤية عميقة مبنية على معلومات محدثة واستيعاب لجميع العوامل المؤثرة على اتخاذ القرار، بما يجعله قرارا علميا وعمليا صائبا وفي توقيته المناسب، والأهم أيضا هو ذلك الطموح الذي لا يستسلم لقيود الواقع، بل ينطلق نحو أفق أرحب متطلعا إلى ما وصل إليه العالم، لنضع قدما حيث كنا نحلم دائما أن نكون.
اليوم وفي ظل كل ما يواجهه العالم وفي القلب منه منطقتنا الشرق أوسطية، لم يعد بناء قدرات الدولة الشاملة ترفا، بل هو ضرورة ماسة لمن أراد أن يمتلك إرادة الحياة والبقاء في عالم وزمن لا يعترف بغير الأقوياء، ولا يمنح تصريح المرور إلى المستقبل إلا لمن يبقى متماسكا ومتمسكا بهويته وأرضه واستقلالية قراره، ويتحلى بالقدرة على قراءة واقعية وعقلانية عميقة لما يدور حوله من متغيرات.
في عالمنا اليوم تتلاشى دول في أيام معدودة، وكأنها قصور بنيت من رمال على شاطئ، تذروها ريح عاصفة أو تلتهمها موجة اضطراب عاتية، لا يشترط بالضرورة أن تأتي من بعيد، بل قد تكون تلك الموجة كامنة تتحين الفرصة للانقضاض في لحظة غفلة أو غفوة اطمئنان.
اليوم .. اليقظة وقراءة ما يدور من حولنا بصورة صحيحة صار "فرض عين" على كل من يريد أن ينجو بوطنه نحو بر الأمان، فما يدور من حولنا في سنوات إعادة بناء النظام الدولي يفوق خيال أعتى المؤلفين، لكن التاريخ دائما عودنا على أنه كاتب السيناريو الذي لا يمكن التنبؤ دائما بمفاجآته الدرامية، وقد رأينا على مدى عقد كامل في منطقتنا الشرق أوسطية كثيرا من تلك المفاجآت التي لا تسر سوى العدو!
هل كان يتصور أحد أن ما عجزت إسرائيل عن تحقيقه في سوريا الحبيبة على مدى أكثر من سبعة عقود منذ عام 1967، تستطيع فعله في بضعة أيام ودون أن تخسر جنديا واحدا أو تُراق قطرة دم لواحد من جنود الاحتلال!! لكن هذه هي الحقيقة المؤلمة دائما عندما تختل عجلة القيادة، ويصيب الاضطراب سفينة الوطن، ساعتها يتحول المستحيل إلى واقع مؤلم، لتبقى الشعوب تدفع فواتيره لسنوات طوال.
وقبل ما حدث في سوريا، استطاعت إسرائيل أن ترتكب مذبحة جماعية ضد الكتلة السكانية الأكبر التي بقيت متماسكة من إجراءات التمزيق بسكين الاستيطان الإسرائيلي، وأعني هنا قطاع غزة، دون أن يفزع العالم المستنيم للهيمنة الغربية من مشاهد القتل الوحشية لأبرياء لا ذنب لهم سوى أنهم يرزحون تحت قبضة احتلال غاشم لا يرعى في المواثيق الدولية ولا حقوق الإنسان إلاً ولا ذمة.
وتكررت المأساة -وإن بصورة أقل في العدد لا في الوحشية- في لبنان، وبات العالم يشاهد عمليات الاغتيال الجماعية بصمت مخزٍ، وكأنه طفل يتابع لعبة "بلاي استيشن"، وليس مذابح جماعية ترتكب بغير توقع لحساب أو عقاب، ولا يوجد – إلى الآن على الأقل- أية ضمانات لعدم تكرار ذلك السيناريو الإجرامي في جبهات أخرى، طالما بقي "شيك" ما يسمى بـ"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" موقعا "على بياض" من جانب معظم القوى الغربية وفي مقدمتهم الولايات المتحدة لحكومة التطرف والإرهاب في تل أبيب!!
قدر الشرق الأوسط أن يبقى ساحة صراع وتنافس، وميدانا لـ"لعبة الأمم" التي تسعى فيها الإمبراطوريات إلى استخلاص مصالحها، وامتصاص مقدرات شعوب المنطقة، بقوتها تارة، أو عبر إضعاف دول تلك المنطقة، ورسم الحدود بفرشاة الدم وليس بأدوات الجغرافيا، ولا أعتقد أن أملا قريبا في أن تصل المنطقة -في حدود ما نرى ونتابع- إلى مرفأ هادئ في المستقبل المنظور على الأقل، وهو ما يفرض على الجميع الحذر والاحتياط، فحروب اليوم لا تخضع لمنطق، والاستعمار الجديد غير جلده وأدواته وبات أكثر نعومة وغموضا، وأشد فتكا وضراوة.
وما عاناه الشرق الأوسط طيلة العام الماضي أو يزيد قد لا يكون "الأسوأ" إذا ما استمرت موجة الجنون الإسرائيلي تعربد في جنبات المنطقة، وهو أمر يقتضي تحركا إقليميا منسقا، وضغطا دوليا غائبا إلى حد الآن، لكن لا بديل عنه، فالمنطقة لا تقتصر المصالح فيها على سكانها وحسب، بل يتشارك العالم الاهتمام والانشغال بحاضرها ومستقبلها، تماما كما كان دائما جزءا من ماضيها.
لذلك كان لقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي بعدد من قادة القوات المسلحة والشرطة والمحافظين، ثم لقائه بعدد من رؤساء التحرير والإعلاميين، كان لي بالغ الشرف أن أكون منهم، فرصة كبيرة للاستماع إلى قراءة شاملة ومحيطة بكل أبعاد ما يدور حولنا، والرد على جميع الشواغل التي ربما تثيرها الأحداث وتطرحها التطورات الراهنة على أكثر من صعيد، من زعيم وطني، وقائد شاء القدر أن يقود سفينة الوطن في سنوات صعبة ووسط أمواج وتحديات لا تهدأ، لكنه عبر 10 سنوات في موقع القيادة أثبت قدرة وحكمة تمنحنا الثقة والاطمئنان في المستقبل بمشيئة الله.
لقاء الرئيس السيسي مع الإعلاميين، تجاوزت مدته الساعة الكاملة، جاء حافلا برسائل واضحة، ولغة محددة، ومكاشفة ليست بغريبة على الرئيس، بل هي جزء من منهجه وأسلوبه، لم يرفض سؤالا، ولم يبخل بإجابة، طاف بكل التحديات التي تواجه المنطقة، من بؤرها الساخنة في سوريا والأراضي الفلسطينية المحتلة ولبنان، مرورا بأزمات قد يتصور البعض أن الرماد الذي يعتلي السطح دليل على هدوئها، لكن الحقيقة أن جذوة الخطر لا تزال متقدة تحت ذلك الرماد، كما هو الحال في ليبيا والسودان والبحر الأحمر.
بعث الرئيس برسائل طمأنة بالغة الأهمية لجموع المصريين، استبقها بالإعراب عن تقديره البالغ للشعب المصري، ووعيه وتمسكه ببناء وطنه، والحفاظ على بقاء مصر رقما صحيحا في معادلة المنطقة التي يريد كثيرون في منطقتنا ومن حولها أن تطغى عليها "الكسور"، وشدد على أن الحفاظ على الأوطان يبقى أولا وأخيرا قرار الشعوب وحدها، مهما كانت التحديات والمهددات، وأن ما يدور في المنطقة يتطلب اليقظة والحذر لكنه لا يقتضي الخوف والهلع.
عشرات الرسائل عن أن امتلاك مصر للقوة والقدرة يمثل ضرورة للحفاظ على مقدرات الشعب، فضلا عن التأكيد على أن وحدة وصلابة الشعب أمام التحديات هو الأمر الضروري لاستقرار الدولة المصرية، ووقوفها بقوة أمام التحديات التي تحيط بها، والتأكيد كذلك على أن "الأصعب" قد مررنا به، ومن المهم أن نسير معا في الطريق للانتهاء من الإصلاحات الاقتصادية وتحقيق التنمية المنشودة.
الإشارة كذلك إلى حفاظ مصر على توازن علاقاتها الاستراتيجية مع دول العالم، وبخاصة مع القوى المؤثرة وفي القلب منها الولايات المتحدة التي تستعد لاستقبال إدارة جديدة يقودها الرئيس دونالد ترامب، كان إشارة في غاية الأهمية، فالعلاقات المصرية الأمريكية ضرورة لحلحلة الكثير من الملفات المهمة في المنطقة كالوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة ولبنان وسوريا والسودان.
قد يبدي البعض تفاؤلا أو تشاؤما عندما يحاول أن يرسم سيناريوهات لمستقبل المنطقة، لكن حتى أكثر السيناريوهات تفاؤلا لا تخلو من تحديات بالنظر إلى ما يحمله "اليوم التالي" في الكثير من أزمات المنطقة من صعوبات جمة، يقتضي تضميد الجراح فيها شهورا وربنا أعواما طوالا، فضلا عن حاجة المنطقة إلى إعادة بناء وإعمار تتطلب سنوات من الهدوء والاستقرار، لا يبدو أن المنطقة في ضوء المعطيات المتاحة تحظى برصيد وافر منه يمكن أن يستخدم مستقبلا.
أخطر ما تواجهه المنطقة في حقيقة الأمر، أنه لا يمكن التنبؤ بما سيحدث، وأن الواقع لا يلقي بالا بأدوات التحليل السياسي أو الاستراتيجي المعتادة، فالقوى الفاعلة في صناعة المشهد الإقليمي لا تبدو جميعها بادية للعيان، وحالة من الضبابية تكسو كثيرا من المشاهد، ما يجعل التنبؤ بالمستقبل صعبا ومستعصيا، لكن من يجيدون قراءة التاريخ وفهم مقتضياته واستيعاب دروسه يمكنهم أن يستنيروا ببعض حقائقه، وأولها أن كل احتلال إلى زوال مهما طال به المقام.
إن إرادة الشعوب، والتمسك بنهج الإصلاح الشامل والمستمر، والحفاظ على مقدرات الأوطان المادية والمعنوية، والتحلي بالصبر والثقة بالله ثم الأخذ بأسباب القوة الشاملة كلها تمثل طوق النجاة لمن يريدون التحصن من غوائل الدهر وكيد المؤامرات التي باتت في منطقتنا كقطع الليل المظلم.
حفظ الله مصرنا وأمتنا العربية من كل مكروه وسوء.
================================
بقلم الدكتور أسامه السعيد " رئيس تحرير جريدة الأخبار "
كاتب صحفي وباحث وروائي مصري، حاصل على درجة الدكتوراه في الإعلام "كلية الإعلام جامعة القاهرة"